هذه العبارة وصف بها المؤرخ هيرودوت مصر بها فى الفصل الخامس من الجزء الثانى من كتابه .
صحيح أن النيل هو الشريان حياة لمصر ولكن لم يستكن أبناء مصر لهبة النيل بل أنهم بلغوا الآفاق فى علمهم وتقدمهم فصاغوا النهر وصنعوا بحيرة الفيوم وأقاموا الجسور الترابية للسيطرة على الفيضان كان كل ذلك فى عصر قدماء المصريين وعملوا بما قدمه الأغريق والرومان من حضارة ففى عصر الإحتلال الرومانى والبيزنطى يمكنك تجد آثار مدن فى مناطق صحراوية اليوم دليلاً على أن المصريين كانوا يعملون على زراعة المناطق الصحراوية والتى كانت بلا شك تحتاج إلى يد عاملة أكثر من الأراضى القريبة من النهر ,
وحتى الواحات يمكنك أن تجد فيها آبار رومانية محفورة منذ العصر الرومانى وبئراً أو أثنين حديثة حفرا لسبب التنقيب عن البترول .
كيمى أو الأرض السوداء
كلمة كيمى القبطية القديمة تعنى الأرض السوداء , هى التربة الغرينية حبيبات التربة السوداء الدقيقة التى حملها نهر النيل ليفيض بها على صحراء مصر فتكون على ضفتية أراضى سوداء تعطى الخصب والنماء لأى زارع فيها , ولولا مياة النيل حاملة الخير معها لأضحى الركن الشمالى الشرقى من القارة الفريقية صحراء قاحلة غير مغموره , وهكذا على ضفافه عاش المصريين جيلاً بعد جيل يساهمون فى الحضارة العالمية بقدرتهم الخلاقة على الإبتكار .
أرض مصر تنحصر من ليبيا غرباً إلى البحر الأحمر شرقاً حيث كانت ليبيا ومن النوبة (السودان ) حتى البحر البيض المتوسط شمالاً وكانت تعتبر البلدين أمتداد لمصر فى العصور القديمة , ومنطقة شمال أفريقيا يغلب عليها التصحر فهى أمتداد صحراوى شاسع يشمل خمسة إلى سبعة دول وتنحصر الخضرة على وادى النيل وفى سلسلة من الواحات هى أيضاً هبة النهر.
الوادى حول النهر : ويتراوح عرض الوادى حول مجرى النهر من عشرة إلى عشرين كيلوميتر عرضاً . منطقة الدلتا : وهى منطقة خصيبة تكونت من فعل رسوب غرين النيل فتحولت إلى ارض طينية خصبة بفعل فروع النيل السبعة و تنتهى رحلة مياة النيل العذبة فى مياة البحر الأبيض المتوسط , ومنطقة الدلتا تشكل مثلث متساوى الأضلاع تقريباً يتراوح طول الضلع 200 كيلوميتر تقريباً .
الفيوم : ويقع على بعد مائة كيلوميتر من جنوب غرب القاهرة منخفض طبيعى حيث صب نهر النيل بعضاً من مياهه فتكونت بحيرة فى قاعه سطحها حوالى 1600 م مربع (640 ميلاً) , تغذيها شبكة من قنوات الرى وتشمل زهاء عشرة فى المائة من مجموع الأرض الزراعية , والبحيرة سطحها 280 كيلوميتر مربعاً حيث هبط منسوب سطح مياهها بنحو 10 متر إلى 12 متر وكلمة الفيوم مشتقة من الكلمة القبطية تعنى بحيرة - وأطلق على هذه المحافظة (المنطقة) أسم أرسينوى فى العصرين الهلينى (البطلمى)
وتوجد فى الصحراء الغربية عدة واحات مزروعة . واليوم بالرغم من التقدم العلمى وزيادة مساحة الأرض الزراعية وزراعة الرض طول السنة إلا أن مساحة الأرض الزراعية إما أنها أقل أو انها تتساوى مما كان عليه فى العصور الرومانية ,
وهذه نتيجة طبيعية للمحن الأقتصادية إستفحلت بسبب المطالب المالية المتزايدة وخاصة فى العصور المتأخرة فى عصر الإحتلال العربى الإسلامى نتيجة للضغط على المزارعين مالياً بزيادة الضرائب ومضايقة الحكام وعدم الأهتمام بأقامة السدود الترابية التى كانت تقى من أخطار القيضان وأصلاح المزيد من الأراضى وغيرها من العوامل فعندما هؤلاء العمال الفعليين فى موقف لا يحسد عليه , فهجروا قرى بأكملها خاصة تلك القرى الموجودة على حافة الصحراء , وكانت قوة العمل المطلوبة لتوفير مياة الرى عالية فقد أرتفعت فى الترع والقنوات نسبة الطمى لعدم صيانتها ,
فأصبحت الأرض لا تصلها المياة فكانت تترك بور بدون زراعة , وما كان يهجره الأنسان المصرى كانت الصحراء سرعان ما تستعيدة وتغطيه برمالها العاصفة (1) وهذا ما يفسر وجود مدن أثريه فى الصحراء وعند التنقيب حولها وفى أعماق تربتها تظهر الأرض الطينية السوداء .
من أين يأتى فيضان النيل ؟ وعندما يحل فصل الصيف كان النيل يزداد إرتفاع مياهه وتصل إلى مستوى ضفتيه ثم تفيض مياهه على أراضى الوادى فيحيله إلى بحيرة متسعه ,
وكانت علة هذه الظاهرة التى تتكرر كل السنة فحاولوا تفسيرها طوال العصر القديم , ففى القرن الخامس ق.م سجل هيرودوت المؤرخ أن : لا أحد يستطيع التحدث عن مصادر النيل , ذلك لأن افريقيا التى يجرى فيها (النيل) صحراء تخلوا من السكان " ومع هذا قدم هيرودوت المؤرخ ثلاث نظريات سبق ان ذكرت حتى عصره وأضاف إليهم نظرية رابعه من نسج خياله ,
والغريب أنه رفض كافة النظريات الأخرى بما فيها النظرية الصحيحة التى أستنتجها الفيلسوف أناجزاجوراس وجاء ذكرها فى قطعة من البردى مكتوب فيها مسرحية مفقودة ليوريبيدس , ثم بعد أربعة قرون ذكر ديودوروس الصقلى عدة تفسيرات ذكر بينهم النظرية الصحيحة التى كانت لا تزال نظرية مرفوضة فى ذلك الوقت .
وفى منتصف القرن الأول الميلادى لاحظ بلينيوس الأكبر بأن : " النيل ينبع من مصادر لم تكتشف " ثم يذكر وصفاً لمنابعة العليا أقرب إلى الأسطورة منه إلى الحقيقة (2) ولكن الكشوف الحديثة أكدت أن مصدر مياة النيل هو فى الحقيقة مصدرين رئيسيين الأول :
أولاً جبال الحبشة : حيث تكون مغطاة بالجليد الذى يذوب هذا غير موسم الأمطار التى تنهمر بغزارة فى كل ربيع دافعه بلايين من الجالونات من الماء فى النهر عند منابعه , وفى رحلة تنزل إلى المجارى التى حفرها عبر مئات الألاف من السنين تمر من صدوع الحبشة وسهول السودان وتصل مصر إلى مصر فى أوائل شهر يونيو -
ويحجز السد العالى فى أسوان وخزان أسوان خلفه هذا الفيض وتتحكم قناتين فى تسريب مياهه إلى المجارى وترع الوادى وهذا السد هو الذى حمى مصر من غيله الفيضان عندما يأتى أعلى من المناسب أو أقل من المناسب القناة الأولى مسئولة عن رى الوادى والقناة الثانية تتغزية قناة توشكى التى أنشئت لزراعة وادى توشكى فى مشروع أنشأ فى عهد السيد الرئيس محمد حسى مبارك -
ثانياً بحيرات فيكتوريا فى وسط أفريقيا : حيث تكون هذه البحيرات مصدر مياة النيل طوال السنة حيث تنساب ببطئ من هذه البحيرات , كما أن المياة تتخلل التربة وتكون نهر تحت الأرض وتظهر هذه المياة من العيون والآبار فى منطقة الواحات فى الصحراء الغربية . وعندما نتكلم عن العصور القديمة فكان الفيضان ينساب فى القنوات وعلى سطح الأرض ببطئ دون تحكم وبعد فترة من 2- 4 أسابيع تقريباً يصل إلى ممفيس ومحافظة أرسينوى (الفيوم) ,
وتبدأ مياه النيل تتخلل المناطق الطينية الجافة المتشققة بجانب النهر حيث تنساب المياة متخللة الشقوق فتملأها ثم تغمر المياة وتنتقل فى بطئ حتى تغمر الوادى كله وهذه العملية كان قدماء المصريين يطلقون عليها أسم شعرى ( عرق أوزوريس ) , وفى 20 يوليو تقريباً تظهر فى السماء نجم منير أسمه الشعرى اليمانية(*) Sirius - التى عندها يتحول لون الماء المحمل بالطمى والغرين الذى جرفه من جبال الحبشة من اللون المائل للإخضرار إلى اللون البنى المائل للأحمرار .
سحر الوادى وعندما تصل جميع مياة نهر النيل إلى أقصى أرتفاع تغطى منطقة أكثر أتساعاً من أراضى الوادى , ويصبح الوادى كله أشبه ببحيرة تغطيها المياة , وترى القرى والمدن التى أقيمت على أراض أعلى من مستوى الفيضان تظهر على سطح المياة , كما ترى الأشجار فى وسط المياة , جذب هذا المنظر أنبهار العالم القديم بمن فيهم أباطرة الرومان والحكام والشعراء والفلاسفة ,
ولسنا هنا بصدد حصر أعمالهم وكتاباتهم ولكن نذكر أن الفيلسوف سينيكا والكاتب المسرحى الذى عاش فى القرن الأول الميلادى كان يملك أراضى وضيعات فى مصر قال : " أن مظهر الريف رائع الجمال , عندما ينشر النيل مياهه فوق الحقول " وكثيراً ما نرى موضوع النيل أثناء فيضانه فى رسوم رومانية كما ترى فى بومبى وفى الفسيفساء وأشهرها أرضية الفسيفساء التى عثر عليها بالسترينا Palestrina بالقرب من روما ( اللوحة رقم 5 ) (3) عودة نهر النيل إلى مجراه - الغرين وكان الفيضان يبدأ فى الأنخفاض عند فيلة فى حوالى منتصف أغسطس وينخفض فى محافظة أرسينوى ( الفيوم) فى منتصف سبتمبر أى بعد من 100 إلى 120 يوماً من بدايته ,
وقبل نهاية أكتوبر يبدأ النهر العودة إلى داخل مجراه بعد أن يخلف وراءه فى الحقول كميات كبيرة من الغرين وهو حبيبات دقيقة من التربة جرفتها السيول الناتجة من المطار من على جبال الحبشة ونقلتها مياة النيل إلى مصر ويعتبر الغرين سماد طبيعى غنى بالأملاح المعدنية والمواد العضوية الدقيقة التى توالدت فى النهر - وقد أظهرت الدراسات الحديثة أن الفيضان فى السنة الواحدة يعطى الهكتار الواحد 20 طناً من السماد - وكان الفيضان يغرق أعداداً هائلة من الفئران كل سنة وتعتبر هذه ميزة إضافية كما كان يقوم بإغراق ديدان الحشرات التى تهاجم المحاصيل فتطفوا وتساعد الطيور فى التغذية عليها بالطائر المعروف (ابو قردان) وكثير من لاصور القديمة تظهر الفلاح يحرث الأرض بالمحراث القديم بينما حوله هذه الطيور تتغذى على ما يخرج من الأرض من ديدان وغيرها , ويستمر نهر النيل ينخفض ببطئ تبعاً لكمية الأمطار الساقطة على جبال الحبشة حتى يصل إلى أدنى نقطة فى مستوى مجراه قبيل بداية فيضان العام التالى ,
وكثير من ألأنهار تحدث فيضان نتيجة لتساقط الأمطار ثم يجف مجراة بعد أنتهاء موسم المطار أما نهر النيل فتستمر المياة تجرى فى مجراة قادمة من منطقة البحيرات فى وسط أفريقيا .