لقد جرت سنة الله في الحياة الدنيا أن تبنى على الابتلاء ، فالإنسان يبتلى في دينه ، ويبتلى في ماله
، ويبتلى في أهله ، وكل هذه الابتلاءات ما هي إلا امتحانات يمتحن الله بها عباده ليميز الخبيث
من الطيب ، وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين .
وقد صدق من قال : إن الله تعالى يقوي أعداءه ويقويهم حتى يقول ضعفاء الإيمان أين الله ؟!
ثم إنه ليظهر آياته في الانتقام للمظلومين حتى يقول الملحدون لا إله إلا الله .
والفتن والابتلاءات التي يتعرض لها أهل الإيمان كثيرة :
ومن بين هذه الفتن أن يتعرض المؤمن للأذى والاضطهاد من الباطل وأهله من أعدائنا أعداء
الحق والخير والإنسانية ثم لا يجد النصير الذى يسانده ويدفع عنه الأذى ، ولا يملك لنفسه
النصره أو المنعة ولا يجد القوة التي يواجه بها الطغيان .
خمس حقائق من فقه الابتلاء :
فما هي الحكمة من الابتلاءات التي يبتلى الله بها المؤمنين ؟!
الحقيقة الأولى : الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة .
الحقيقة الأولى إن الله تعالى غني عن تعذيب عباده وحاشا له جل جلاله أن يكون
هدفه من الابتلاء تعذيب عباده أو إيذاؤهم فهو جل جلاله الرحمن الرحيم خلق
عباده ليرحمهم ويسعدهم بمعرفته وعبادته .
أما هدف الابتلاء فهو الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة الكبرى والمسؤولية العظمى ،
فحمل الأمانة لا يتم إلا بالمعاناة ، وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات ،
وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام ، وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله أو ثوابه على الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء .
فكما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به
، كذلك تصنع الفتن بالنفوس تصهرها فتنفي عنها الخبث .
الحقيقة الثانية : الابتلاء يكفر الخطايا والذنوب .
الحقيقة الثانية في فقه الابتلاء
أن الابتلاء يكفر الخطايا والذنوب ويرفع عند الله الدرجة .
ومن خلاله يشهد الله لأهله بأن في دينهم صلابة ، وفي عقيدتهم قوة فهو سبحانه يختارهم للابتلاء .
وفي الحديث الشريف :
عن مصعب بن سعد رحمه الله ، عن أبيه رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ، أيُّ الناس أشَدُّ بلاء ؟ قال :
(( الأنبياءُ ، ثم الأمثلُ فالأمثلُ ، فيبتلى الرَّجُلُ على حَسْبِ دِينه ، فإن كان
دِينُهُ صُلْبا اشتَدَّ بلاؤه ، وإن كان في دِينه رِقَّة ابتلي على حسب دينه ، فما يَبْرَحُ البلاءُ
بالعبد حتى يتركَهُ يَمْشِي على الأرضِ ما عليْهِ خطيئةٌ ))
[ أخرجه الترمذي ]
ويقول المصطفى :
(( أشد الناس بلاءً الأنبياء ، ثم الصالحون ، لقد كان أحدهم يُبتلى بالفقر حتى
ما يجدُ إلا العباءة يجوبها ، فيلبسها ، ويُبتلى بالقمَّل حتى يقتلُه ، ولأحدهم كان أشدَّ فرحاَ بالبلاءِ من أحدكم بالعطاء ))
[ أخرجه الحاكم في مستدركه ]
وقد ورد في صحيح البخاري أن النبي قام يوماً يصلي في حجر الكعبة فأقبل عليه عقبة بن أبى
معيط فوضع ثوبه في عنق النبي فخنقه خنقاً شديداً فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه
عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يقول { أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ}.
ولقد ورد أيضاً في صحيح البخاري عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو
متوسد بردة وهو في ظل الكعبة – وقد لقينا من المشركين شدة – فقلت :
يا رسول الله ألا تدعو الله فقعد وهو محمر وجهه فقال :
(( لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه
ذلك عن دينه ، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله))
وإذا كانت هذه الاعتداءات على النبي وله من الجلال والوقار في نفوس العامة والخاصة فكيف بالصحابة
الكرام ، لاسيما الضعفاء منهم ، فأنتم تعلمون ما الذي كان يُفعل ببلال و خباب وآل ياسر وصهيب
وابن مسعود وغيرهم ممن قالوا : لا إله إلا الله .
فضربوا لنا أروع الأمثلة في الصبر على البلاء والتضحية لهذا الدين حتى ولو كانت بالأرواح والأبدان
الحقيقة الثالثة : عملية الفرز .
الحقيقة الثالثة في فقه الابتلاء أن الله تعالى يمحص الناس في الابتلاء
ويفرزهم فيظهر نفاق المنافقين وينجلي كذب الكاذبين كما يظهر